فندق فكتوريا الدمشقي قصة زيارة ملكية لم تكتمل
في أزقتها تختلط رائحة الياسمين الأبيض بالنارنج لتشكلان مزيجاً ساحراً، وفي أسواقها تزدهي المحلات بحكايات الزمن الجميل وآثاره، تسير في شوارعها فتلاطف سمعك لهجة سكانها القريبة لتستقر في قلبك، إنّها مدينة كتب لأجلها الشعراء، وفي جمالها تغنى الأدباء، فهي موطن للحب والخضرة وخصب الأرض وطيب الماء، وهي قبلةٌ للجمال وموئلٌ للشغف لطالما زارها الناس والمستشرقين والسواح قبلة الشرق والغرب عشقوها وتغنوا بها
والفنادق في دمشق تطورت مع تتطور الأزمنة والحاجات، من الخانات القديمة مروراً بـ "النزل" ووصولاً إلى الفنادق الكبيرة المبنية على الطراز الحديث لتلبي حاجات السياح والوفود الرسمية من ملوك ورؤساء وشخصيات عامة.
وفي عام 1897 قررت ملكة بريطانيا وأيرلندا والهند "الكساندرينا فيكتوريا" أن تقوم بزيارة لسوريا، وعندها بدأت قصة أول فندق يبنى على الطراز الأوروبي في دمشق، والذي سمي على اسمها "فندق فيكتوريا"، ولم يكن وحده من أطلق عليه اسم ملكة بريطانيا، فالجسر المجاور للفندق سمي بـ "جسر فيكتوريا"، ومشفى الزهراوي الواقع في حي القصاع كان اسمه "مشفى فيكتوريا"، ولكن هذه الزيارة لم تتم بسبب وفاة الملكة.
وتتضارب المراجع التاريخية في تحديد هوية الشخص الذي قام بتشيد هذا الفندق، حيث تقول إحدى الروايات أن "أحمد عزت العابد" المستشار الخاص للسلطان عبد الحميد الثاني العثماني ووالد أول رئيس للجمهورية السورية محمد علي العابد هو من بناه ومن ثم تملكه "الخواجة بترو"، ورواية اخرى تقول أن "الخواجة بترو" هو صاحب الفكرة في تشييده.
وأقيم فندق فيكتوريا على ضفة نهر بردى مقابل السراي (وزارة الداخلية القديمة) في منطقة تمتد فيها البساتين على مد النظر وقريبة من محطة الحجاز وساحة المرجة، وكان فندق من أهم الفنادق في ذلك الزمان، فقد جُهز بأحدث معدات الفنادق الأوربية الحديثة.
كان مؤلفاً من طوابق ثلاث، يعلوها سقف هرمي الشكل مبني من القرميد الأحمر، وله "تراس"، أما تصميمته الداخلي تميز بالتمازج بين الطراز الغربي والشرقي، أسقف الغرف مزخرفة وكذلك الأقواس العربية والأعمدة، ونوافذه كثيرة منها ما يصل حتى حدود السقف.
وتولى إدارته أشخاص شُهد لهم بطول الباع في إدارة الفنادق الخواجة ندرة الوف وميشيل ساريكاكي.
اما عن أسماء نزلاء الفندق المشاهير والشخصيات الذين أقاموا في فندق فيكتوريا أتوا من أصقاع الأرض كافة عرباً واجانب، شخصيات سياسية، عسكرية، فنية وثقافية.
حسب التسلسل الزمني:
- الإمبراطور الألماني غليوم الثاني: جاء إلى دمشق بزيارة رسمية مع زوجته الإمبراطورة "أوغوستا فيكتوريا" يوم الاثنين 7 تشرين الثاني عام 1898م، ونزل في الفندق مع مرافقيه وحاشيته، وبعض المصادر تقول أن الامبراطور وزوجته نزلوا في المشيرية العسكرية (مكان القصر العدلي حالياً) ومرافقيه نزلوا في فندق فيكتوريا.
- المهندس المعماري الإسباني فرناندو دا أراندا الذي وصل إلى دمشق سنة 1902 قادماً من اسطنبول، وفي دمشق تعرف على زورجته زنوبيا سيريكاكيس، ولهذا المعماري منجزات معمارية كبيرة في دمشق مازالت موجودة حتى يومنا هذا منها بناء محطة الحجاز.
- الحاكم العسكري العثماني لدمشق جمال باشا الملقب بـ"السفاح" نزل في فندق فيكتوريا عام 1916، وبقي فيه طوال إقامته في دمشق.
- الحاكم العسكري العثماني جمال باشا المرسيني الملقب بـ"الصغير" الذي خلف جمال باشا "السفاح" وبقي فيه حتى شهر أيلول من عام 1918 وكان مقراً للقيادة العسكرية العثمانية طيلة فترة الحرب العالمية الأولى.
- الجنرال البريطاني إدموند اللنبي الذي دخل إلى دمشق في 3 تشرين الأول عام 1918 عند دخول القوات الإنكليزية مع الأمير فيصل بن الحسين، فنزل في فندق فيكتوريا، واستدعى إليه قائد الخيالة الأسترالي الجنرال "شوفيل" وطلب منه أن يرسل سيارة لتقل الأمير فيصل إلى فندق فيكتوريا حتى يلتقيان، وكان لورنس العرب هو المترجم في هذا اللقاء.
- اللورد بلفور جاء دمشق في نيسان 1925، ونزل فندق فيكتوريا 19 ساعة فقط لم يخرج من غرفته، بسبب المظاهرات الحاشدة للدمشقيين المنددين بوعده المشؤوم، وحصلت مصادمات مع قوات الانتداب الفرنسي آنذاك سقط خلالها أكثر من 50 جريحاً، مما اضطر بلفور إلى مغادرة دمشق.
- الفنان شارلي شابلن نزل في هذا الفندق عندما زار دمشق سنة 1931 لافتتاح فيلمه الشهير"أضواء المدينة".
- القيادة البريطانية العسكرية مع دخول الديغوليين إلى دمشق عام 1941م.
هذا غيض من فيض عن فندق فيكتوريا؛ ذلك المكان الذي كانت تعبق بين أحجاره وزواياه ونوافذه.. قصص وحكايا دمشق، كانت هناك ذاكرة دمشق، وفي منتصف الخمسينات من القرن الماضي وانتهت فصول حكاية هذا الفندق قبل 60 قضينا على سجل تاريخي هام من سجلات الوطن حين هدمنا فندق فيكتوريا تنفيذاً لمخطط المهندس الفرنسي الشهير صاحب الأسى في حياة الدمشقيين، ميشيل إيكوشار، الذي سعى من خلال مخططه التنظيمي لدمشق إلى محو الذاكرة الوطنية والهوية الوطنية، بهدف تشويه دمشق ومحو هويتها وتراثها.
أزيل الفندق نهائيا عام 1955م، حين شُيد في مكانه مبنى تجاري إسمنتي ضم مكاتب ومحلات كثيرة، هو بناء الحايك، ففي عام 1953 تم البدء في إشادة بناء الحايك ككتلة إسمنتية في غاية القبح المعماري مكان أهم أبنية دمشق التاريخية والتراثية، وانتهى إشادة بناء الحايك في العام 1955.
ويبقى الفندق حاضراً في ذاكرة السوريين أفراداً مسنين ممن عاصروه ومؤرخين يسعون للحفاظ عن ذاكرة المكان.
ويقول عنه السيد "ملهم جبري" صاحب محل في الشارع: «يضم الشارع أقدم وأشهر مقاهي دمشق مثل "الهافانا" و"البرازيل"، أما عن المباني التاريخية والمهمة المجاورة لجسر "فيكتوريا"، فأبرزها مبنى فندق "خوّام" أو "المشرق"، الذي أنشئ على الطراز الشرقي وكانت فيه ساحة سماوية تتوسطها بركة ماء تحيط بها أشجار الليمون والياسمين، وصار فيما بعد مقهى "الصفا" ومطعم "سقراط"، كذلك فندق "قصر عدن"،
وفي زاوية شارع بيروت بجوار الجسر من جهة الجنوب أنشئ فندق آخر أخذ اسم فيكتوريا أيضاً ولكنه هدم فيما بعد، وأقيم مكانه في خمسينيات القرن العشرين فندق "سميراميس" الذي ما زال قائماً ويتميز بطرازه المعماري الجميل وشكله المميز وديكوراته الخارجية.
ويتابع حديثه قائلاً: «يجاور الجسر جامع "الطاووسية"، الذي بني في العهد المملوكي عام 1382، ويوجد فيه برج "دمشق" المشهور لأجهزة الهاتف المحمول، ومنطقة "البحصة" المتخصصة ببيع الحواسيب الشخصية والكومبيوترات وملحقاتها، وفي الشارع أيضاً عدد من الأبنية الحكومية، والمؤسسات الخاصة الكبرى.
وجاءت تسمية الجسر من بنائه بجوار "فندق فيكتوريا" وهو أول فندق شيد في دمشق أواخر القرن التاسع عشر على الطراز الأوروبي في العمارة، وذلك بعدما كانت الخانات القديمة تلعب دور الفنادق في القرون السابقة، وكان "فندق فيكتوريا" يعد من أجمل الأبنية المشيدة في "دمشق" في تلك الحقبة،
وفي النهاية تبق دمشق أسطورة وحلم وحكاية.. حكاية بدأت منذ آلاف السنين ولم تنته ولن تنتهي، الباحث عن دمشق يغرق في تفاصيلها الصغيرة الكبيرة، في عظمتها وشجونها وأحلامها، من دمشق خطّ الإنسان اسمه، وتعلم فيها أبجدية الحروف، وبناء الحضارة، وأشاد فيها الصروح العمرانية شاهداً على عظمة الزمان ولتبقى تلك الصروح ذاكرة للمكان،
بقلم ميسون غزلان