احتفالات رأس السنة الامازيغية "يناير" بالجزائر ... بين الأسطورة و الحقيقة عادات و تقاليد متوارثة مازالت راسخة بين أوساط العائلات الجزائرية


احتفالات رأس السنة الامازيغية  "يناير" بالجزائر ... بين الأسطورة و الحقيقة

عادات و تقاليد متوارثة مازالت راسخة بين أوساط العائلات الجزائرية

 

تعتبر العادات و التقاليد من المقومات الأساسية التي يتكون منها أي مجتمع ، فهي جزء هام من الثقافة العامة لأي بلد، و تختلف عادات و تقاليد كل شعب تبعا للمكان الذي ينتمي إليه و الجزائر من الدول التي تتميز بتنوع عاداتها و تقاليدها النابعة من التراث العريق لهذا البلد  ويعود ذلك إلى التنوع الثقافي الذي شهدته عبر مرا لعصور .

تحتفل الجزائر سنويا  برأس السنة الامازيغية، وهو تقويم زمني قديم يسبق التقويم الميلادي ب950 سنة، و هي ثاني أقدم سنة في العالم بعد السنة العبرية ، ففي الوقت الذي بات العالم يعيش في العام 2023 في التقويم الميلادي ، فإن الامازيغ وصلوا إلى عامهم الـ 2973 في التقويم الامازيغي ، والذي يعتبر أقدم تقويم عرفته البشرية هو تقويما زراعيا في الأساس لأن الإنسان قديما كانت تربطه علاقة وطيدة بالأرض التي يعيش عليها كونها مصدر رزقه  و هذا دليل على حضارة و تطور الإنسان الامازيغي الذي استطاع أن يضع أسس لحياته من خلال هذا التقويم .

"يناير" أو "ناير"أو "العجوزة"، هي مصطلحات تطلق على رأس السنة الامازيغية بالجزائر و الذي تختلف تسميته من منطقة لأخرى حسب عادات و تقاليد كل منطقة ، لا يزال الجزائريون يحتفلون بهذا التقليد الاجتماعي القادم من أعماق تاريخهم العريق بجملة من الطقوس و التحضيرات المسبقة لهذه المناسبة ، و قبل الحديث عن أجواء الاحتفالات هناك سؤال يتبادل إلى الأذهان وهو كيف استطاعت طقوس احتفالية يناير الصمود لقرون من الزمن دون أن تندثر و كيف استطاع أمازيع الجزائر أن يستمروا في إحياء هذه المناسبة عام بعد عام رغم الغزوات المتكررة على هذا البلد بدءا من العهد الفنيقي  إلى غاية الاستعمار الفرنسي الذي حاول جاهدا القضاء على مقومات و هوية هذا البلد .

يرتبط إحياء طقوس يناير بمجموعة من الأساطير التي يرويها السكان القدامى للجزائر

أبرزها على الإطلاق أسطورة  القائد الامازيغي " شيشناق" قاهر الفراعنة التي حكمت أسرته مصر لمدة تزيدعن قرنين و تختلف الروايات حول أصل شيشناق  فتذهب بعض الروايات إلى انه من بني سويس بمصر و انه صد هجوما قام به الملك المصري الفرعوني "بسوسنس الثاني" قرب مدينة تلمسان غرب الجزائر من اجل الاستيلاء على بلاد الامازيغ  فهزمه  شيشناق بعد معركة طويلة ، ثم نصب نفسه حاكما لمصر و ما جاورها  و تم الاحتفال بهذا النصر العظيم فاختير هذا اليوم ليكون بداية التقويم الامازيغي  تقديرا و إجلالا لهذا القائد العظيم .

و هناك رواية أخرى  تقول انه كانت هناك عجوز استهانت بقوى الطبيعة ، و كانت مغرورة بنفسها و نسبت صمودها ضد الشتاء القاسي إلى قوتها و شتمت شهر يناير قائلة " ها أنت ستغادر ليحل محلك فورار( شهر فبراير / شباط) الذي لن يصيبني فيه البرد و لن تعرقلني الثلوج" هنا غضب يناير منها كثيرا و شعر بالإهانة  ووقاحة المرأة العجوز  و طلب من شهر فبراير إعارته يوما و ليلة لكي ينتقم منها لأنها تحدته و شتمته ، و فعلا لبى فبراير طلبه و تنازل له عن يومين من عمره، فخرجت العجوز إلى حقلها لترعى أغنامها و هي مطمئنة بأن يناير قد رحل و فجأة وقعت عاصفة قوية  فهلكت العجوز مع قطيعها، انطلاقا من هذه الأسطورة أصبح شهر فبراير أقصر شهورالسنة ب 28 يوم و ليس 30 يوم مثل باقي الشهور .   

بغض النظر عن صحة هذه الروايات التاريخية  فان الطقوس الاحتفالية بهذا اليوم لازالت قائمة بذاتها حتى يومنا هذا ، فأسطورة "شيشناق" و أسطورة "العجوز" و إن كانتا مختلفتان تماما ، إلا إنهما وجهتان لعملة واحدة و هي الارتباط الوثيق للإنسان الامازيغي  بأرضه فالأرض هي الأم الحاضنة و منها تولد كل الخيرات التي تسمح للإنسان بالعيش و الاستمرار في الوجود، لهذا تحتل الأرض مساحة واسعة من الطقوس التي تقام  في يناير  تمجيدا لها و اعترافا بخيراتها و محاولة تجنب غضبها الذي كان يأتي في شكل جفاف أو أوبئة تفسد الزرع و المحاصيل فطقوس يناير تعيد الإنسان إلى الأرض .

يختلف الجزائريون في طريقة إحياء يناير من منطقة إلى أخرى وهو أمر يعكس التنوع الثقافي و الثراء الذي يميز الثقافة الجزائرية ، إلا أن هناك بعض التقاطعات التي تجعل  الطقوس مشتركة بين الجميع منها ذبح ديك بلدي و هو أفضل من الديك العادي ذوقا و بركة  أو دجاجة ، و يتعمد أن تصل دماؤه إلى أنحاء المنزل بغية طرد النحس والأرواح الشريرة من المنزل و تحضير عشاء عائلي تقليدي خاص ما يسمى ب" امنسي إمزنزن" و عادة ما يكون هذا العشاء عبارة عن طبق الكسكسى الشهير الذي يطبخ  باستخدام سبعة أنواع من الخضار و الحبوب أو الشخشوخة و الشرشم و غيرها من الأطباق الشعبية التي تزخر بها الجزائر و هي مناسبة لاجتماع أفراد العائلة حول مائدة العشاء في جو عائلي ممتع، و هناك طقس لا يمكن الاستغناء عنه و هو ما يسمى "بالتراز" و هنا يتم وضع اصغر طفل في العائلة بعد أن يلبس أجمل الثياب و يكون في العادة زي تقليدي مستوحى من تراث الجزائر العريق ، و يتم وضع الطفل داخل صنية كبيرة ثم ينثر فوق رأسه التراز المتكون من خليط من الحلويات الجافة ، المكسرات بمختلف أنواعها و التمر، بعد ذلك يتم جمعها ووضعها في أكياس صغيرة و توزيعها على الحضور، هذا الطقس الذي يرمز للتفاؤل و الاستبشار بسنة مليئة  بالخيرات لهذا الطفل و لكل أفراد العائلة ، و من هنا فقط يمكننا فهم حرص المرأة الجزائرية على التحضير المسبق لهذه المناسبة و ذلك باستبدال الأواني القديمة بأواني جديدة و عادة تكون مصنوعة من الفخار .

و الجزائر العاصمة و على غرار مختلف ولايات القطر الجزائري أحيت رأس السنة الامازيغية  من خلال برنامج ثري و متنوع عبر مختلف مؤسسات فنون و ثقافة التابعة لوزارة الثقافة التي نظمن  نشاطات متنوعة بهدف إبراز البعد الثقافي و التاريخي و حتى الاجتماعي لهذا اليوم و من اجل تثمين الاحتفالات الشعبية التي تشكل رافد من روافد الذاكرة و الهوية الوطنية، احتضن مركز فنون و ثقافة بقصر رياس البحر بالجزائر العاصمة  تظاهرة  ثقافية بهذه المناسبة تحت شعار "يناير... ريح من  تراث الأوراس"  و كانت ولاية خنشلة من الشرق الجزائري ضيفة شرف هذه الفعالية  تضمنت معارض  متنوعة تترجم  الثراء الثقافي التاريخي الذي تتمتع به  منطقة الشاوية على غرار الأكلات الشعبية و الزربية الشاوية و الزي الشاوي التقليدي و بعض الحرف الضاربة في عراقة المنطقة إضافة إلى قعدة احتفالية ( جلسة) خاصة بالمنطقة ، كل هذا يدخل في سياق التعريف بالتراث و العادات التقليدية الاوراسية عامة و التي تعتبر فصلا محوريا من فصول التنوع الثقافي الذي تزخر به الجزائر .

رغم اختلاف الاحتفالات المخلدة لرأس السنة الامازيغية من منطقة لأخرى ، إلا أن هذا الإرث الثقافي المشترك و المتناقل عبر العصور مازال قائما بذاته و يندرج ضمن التراث الثقافي الغير مادي للجزائر، حيث يتم إحياء هذه اليوم  وفق عادات و تقاليد متوارثة من الأسلاف منذ القدم تعكس تقاليد و عادات المجتمع الجزائري النابعة من أصاليته و موروثه الثقافي الممتد  بجذوره إلى ألاف السنين، فالتقويم الامازيغي هو تقويم زراعي يبدأ مع بداية موسم الحرث في شمال إفريقيا ، كما أنه مرتبط بعلاقة الإنسان بأرضه و حرصه الدائم على تقديسها و الانتماء إليها .

اعداد: جميلة خياري

تدقيق: نوال معدراني

أخبار مرتبطة